يتأثر الاقتصاد العالمي بالمتغيرات الدولية بصورة متسارعة وخاصة في القطاع المالي، حيث إن هناك ارتباطاً وثيقاً للمؤسسات المالية وأسواقها بطبيعة أداء النظام ومدى مرونته . وإن عولمة قطاع الخدمات المالية وأسواقها، وتكثيف التكامل المالي الدولي قد خلقا فرصاً وتحديات في عملية الوساطة المالية من حيث تطوير استراتيجيات عالمية بهدف توفير القيمة . ونظراً لأهمية الخدمات المالية في تنظيم الاقتصاد العالمي، فإن هذه النشاطات تتيح فرصاً مهمة لتحقيق القيمة والاستفادة منها بوتيرة متزايدة، ذلك أن المراكز المالية الدولية اصبحت بمثابة لاعبين رئيسيين في “السباق” الرامي الى نيل حصة كبيرة من التدفقات المالية العالمية . والمعلوم ان هناك نوعا رئيسيا من المراكز المالية التي تقع خارج الدول وهي هذه المراكز المالية الدولية التي تلعب دورا مهيمنا في عملية الوساطة المالية الدولية . لكن كيف تولدت عملية الوساطة المالية؟ فبالعودة الى تاريخ الاقتصاد الحديث يلاحظ أن نظرية الوساطة المالية يعود ظهورها الى المفكر آدم سميث في كتابه “مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب” الذي صدر عام (1817)، ولكن الأفكار التي تناولها فيه غير فعالة في عرض الوساطة المالية لأنها تعاني نقصاً في عرض واقع الصناعة المالية الحديثة . ومن هنا يلاحظ أن نظرية الوساطة المالية التقليدية تقترح توفير عناصر القيمة الأساسية، مثل السيولة وإدارة المخاطر، وتخصيص الموارد، ولكنها لا تعطي أي اعتبار لعناصر القيمة المضافة كنتائج رئيسة لعملية الوساطة المالية، خاصة أن التحدي الذي يواجه المراكز المالية الدولية يكمن في تطوير مناخ استثمار مناسب وسليم، وتوفير عناصر أو عوامل من القيمة المضافة الى مجموعة المؤسسات المالية العاملة فيها .

إن التعاريف المختلفة للمركز المالي الدولي جميعها تلتقي في عنصر مشترك يتمثل في توفير الصفقات والخدمات المالية . يمثل المركز المالي الدولي تجمع المؤسسات المالية التي توفر قيمة بطريقة تنافسية في الأسواق المالية العالمية، ولكن التعاريف الحالية لمناخ الاستثمار في المراكز المالية الدولية تعاني التركيز الضيق على العناصر المؤسسية والتنظيمية . ومن هذه التعاريف تعريف يقول إن مناخ الاستثمار هو: “البيئة المؤسسية والسياسات التنظيمية التي تعمل فيها الشركات، وهي تشكل مجموعة من الحوافز التي تحدد قواعد وشروط العمل والأداء التي يجب على الأطراف الاقتصادية والشركات أن تلتزم بها” .

وهناك تعريف آخر يرى أن مناخ الاستثمار هو: عناصر بيئية تشمل السلوكيات والمؤسسات، والسياسات الحالية والمستقبلية التي تؤثر في العوائد والمخاطر المرتبطة بالاستثمار . يركز مفهوم مناخ الاستثمار على مسائل المؤسسات والحوكمة والسياسات والاستقرار، والبنية التحتية التي تؤثر إضافة الى مستوى رأس المال المستثمر، فهي أيضاً تؤثر في إنتاجية الاستثمارات القائمة، وبالتالي في جميع عوامل الإنتاج، والاستعداد للقيام باستثمارات منتجة على المدى الطويل . فتعريف مناخ الاستثمار يجب أن يدمج المزيد من عناصر القيمة على النحو المنصوص عليه: “عوامل أو عناصر القيمة التي يزودها المركز المالي الدولي الى مجموعة المؤسسات المالية العاملة فيه” . فالدراسات التي أجريت حول مناخ الاستثمار، الذي هو مرادف لبيئة الأعمال، تركز على مخرجاته الإيجابية من حيث تحفيز التنمية الاقتصادية . ولكن معظم هذه الدراسات تصف أو تحدد متطلبات مؤسسية وحوكمة وعناصر البنية التحتية في المركز المالي الدولي . إضافة فإن تلك الدراسات تتميز بتركيزها الجغرافي الضيق على آسيا أو أوروبا، وعدم اهتمامها بدول إفريقيا والشرق الأوسط بشكل كامل . ويغذي ظهور الشرق الأوسط كمركز مالي دولي حافل بتدفق عائدات النفط والاستثمارات . فالدول العربية وخصوصا دول مجلس التعاون الخليجي تسعى إلى إنشاء كيان اقتصادي دولي عن طريق تأسيس مراكز مالية دولية، إذ إن الدراسات التي أجريت حول مناخ الاستثمار تعاني نقص المعرفة وتحتاج إلى معالجة عن طريق إجراء دراسة ميدانية على مركز مالي دولي يقع في إحدى هذه الدول .

وعند استعراض الأدبيات والمؤلفات المتعلقة بالمركز المالي الدولي، تتضح لنا عوامل او عناصر مناخ الاستثمار فيه . واستنادا إلى استعراض عميق النطاق للمؤلفات المتوفرة نجد أنه يمكن تصنيف هذه العوامل على النحو التالي: التمويل، الابتكار، الحوكمة، العلاقات الاجتماعية، والمعلومات .

التمويل . . يعتمد النظام الاقتصادي الحديث على تدفق موثوق وفعال للتمويل من خلال النظام المالي الذي يضم كلاً من الأسواق المالية والوسطاء الماليين . وتكون الحاجة في هذا النظام ماسة إلى موارد مالية لتحقيق الأهداف التي وضعتها المنظمات، علماً بأن التوزيع الفعال للموارد والمخاطر هو الوظيفة الأساسية لأي نظام مالي . فالمؤسسات تسمح بأسلوب ذي كفاءة بتكوين رأس المال من خلال توفير الخدمات للمستثمرين، الدائنين، والمساهمين، إذ إن إدارة المخاطر تضيف قيمة حقيقية في مجال الخدمات والمؤسسات المالية، وتتحمل إدارة المخاطر نيابة عن عملائها في تجميع المخاطر وبيع خدماتها كمتخصصي مخاطر . وقد تبين من الأبحاث التي أجريت في هذا المجال أن توفير السيولة وإدارة المخاطر عاملان أساسيان ومهمان لمناخ الاستثمار في المركز المالي الدولي . فقد خلص بحث عن التنظيم وتطور أسواق رأس المال في الكثير من المدن في العالم، إلى أن دور المركز المالي الدولي هو أداء أعمال الوساطة بين أوضاع الفائض والعجز للوفورات المالية التي يمكن مطابقتها بأفضل وسيلة في مكان مركزي . وجدت دراسة تطبيقية أن التنمية المستقبلية للمدن تعتمد على الأهمية النسبية وحجم القوى والعوامل الجاذبة إلى المركز في الأسواق المالية الدولية وأن أهم قوة جذب تعتمد على مدى سيولة السوق .

فالمستثمرون الذين يتجنبون المخاطر يفضلون التعامل في الأسواق السائلة لأن مخاطر تغيرات السعر الناجمة عن نقص السيولة تصل الى مستويات متدنية، إضافة إلى توفير السيولة في المركز المالي الدولي، فإن إدارة المخاطر ذات أهمية كبرى . فالمركز المالي الدولي يضيف قيمة إلى الشركات عن طريق تقليل المخاطر في التعاقد الخارجي .

والمناقشة أعلاه تشير إلى ما يلي:

الفرضية الأولى: إن توفير التمويل والسيولة ترتبط بشكل إيجابي بمناخ الاستثمار في المركز المالي الدولي .

الابتكار . . يظهر الأثر الإيجابي للابتكار في مناخ الاستثمار بوضوح على مستوى كل من الشركات والدول على حد سواء، وقد يشكل الابتكار المفتاح أو المدخل للمؤسسات المالية من حيث توفير المنتجات ذات القيمة المضافة والخدمات والتمييز على المنافسين . إضافة إلى عوامل الإنتاج فإن أنظمة الابتكار الوطنية والاقليمية تمثل عوامل اختيار موقع استثمار من حيث مرونتها واستعدادها لتشجيع الابتكار . فالابتكار له أهمية خاصة للأطراف الممثلة بشكل بارز في الأسواق الخارجية . وعادة تمتاز هذه الأسواق بعوائق قليلة للقدرة التنافسية وذلك نظرا لغياب القواعد التنظيمية، ما يوفر لكل طرف درجات حرية كبيرة في سلوكيات الابتكار مقارنة بالأسواق التقليدية .

المناقشة أعلاه تشير إلى الفرضية الثانية: من المتوقع أن يكون الابتكار ذا صلة بشكل إيجابي في مناخ الاستثمار في المركز المالي الدولي .

الحوكمة . . إن نظم الحوكمة المتكاملة ضرورية لتطوير مناخ الاستثمار الملائم في المركز المالي الدولي . ويشمل عدة عناصر مترابطة: النظم القانونية والتنظيمية، الشفافية، المؤسسات، البنية التحتية، بيئة سياسية واقتصادية مستقرة، وحرية حركة حساب رأس مال بدون قيود . وتم استنتاج ذلك في دراسة ميدانية عن العناصر المهمة في شرق آسيا وغيرها من الأسواق الناشئة ما أدى الى جذب الاستثمارات الاجنبية طويلة الأجل وذات طابع مستقر . يتضمن مناخ الاستثمار الملائم سياسات الاقتصاد الكلي السليمة، ونظماً منفتحة على الاستثمارات الاجنبية، وغير تمييزية لتيسير الأعمال التجارية . حددت دراسة ميدانية أخرى عن المواقع التي تخطط الشركات توسيع عملياتها فيها بعض العوامل التي يمكن أن تفسر المواقع الأكثر جاذبية لهذه المجموعات المالية . وأشارت نتائج الدراسة إلى أن مزايا محددة لموقع الاستثمار الملائم تشمل الحجم، والثقافة، والبعد الحضاري والاجتماعي، ما يؤدي الى إنشاء فروع أجنبية للشركات الدولية المالية في تلك المواقع . ثانياً إن الحوكمة القوية تؤثر بقوة في اختيار البلدان ذات الجاذبية الاستثمارية . وأخيراً حددت دراسة عناصر مناخ الاستثمار السليمة، وتشمل نظم حوكمة الشركات، الأنظمة والقواعد المالية، وبيئة الأعمال العامة كوسيلة لتحقيق المصلحة الوطنية، وبذلك تتدفق تلك المعاملات الدولية من خلالها . المناقشة الواردة أعلاه تشير إلى الفرضية الثالثة: إن وجود نظام حوكمة متكامل له صلة ذات إيجابية في مناخ الاستثمار للمركز المالي الدولي .

العلاقات الاجتماعية والإنسانية . . تولد العلاقات الاجتماعية فرصاً استثمارية، وتتسم العلاقات الإنسانية والاجتماعية بطول أجلها وبسمات مهمة للأطراف المعنية: الموثوقية، الثقة والأمان . وبإجمالها تعتبر عوامل حاسمة لنجاح العمليات وتؤدي الى معدلات مناسبة للنمو الاقتصادي . إضافة إلى ذلك فإن العلاقات المترابطة الاجتماعية تعزز الأمان من خلال تمكين التعاون في حل المشكلات، الابتكار، التعلم، والتقدم والتطور للمؤسسات . وقد حددت دراسة العوامل التي تؤثر في القدرة التنافسية للمركز المالي، مثل أمستردام باعتبارها مركزاً مالياً دولياً، ووجدت أدلة على أن الأسواق المالية لديها “أسس وروابط اجتماعية” إن عملية تطوير المعرفة ونشرها يمكن تعزيزها بواسطة الارتباطات الاجتماعية للمؤسسات المالية في موقع المركز المالي الدولي، والارتباطات الاجتماعية المكثفة بين العاملين في هذه النظم الاجتماعية . المناقشة أعلاه تشير إلى الفرضية الرابعة:

إن تطوير العلاقات الاجتماعية يرتبط بشكل ايجابي بمناخ الاستثمار في المركز المالي الدولي .

المعلومات . . تمنح المؤسسات المالية فرص اكتشاف وتقييم، ونشر المعلومات بطريقة عملية عن فرص استثمار، وهذه تعتبر نقطة محورية في مجال تنظيم المشاريع . وفي سياق مماثل، فإن تجمع المؤسسات المالية في مركز أو موقع محدد قد يؤدي إلى تدفق المعلومات . وفي دراسة أخرى عن القدرة التنافسية لمدينة أمستردام باعتبارها مركزاً مالياً دولياً، وجدت أن تجمع المؤسسات المالية ضمن ذلك المركز سوف يؤدي إلى نشر المعلومات . وهذا يشير إلى إنتاج وتوليد ونشر المعرفة، ما يسهل تجمع المؤسسات لعقد صفقات رابحة . وجدت دراسة تطبيقية أن كثافة وجود الوسطاء الماليين الآخرين يحفز التواصل بين الأطراف، ويمكن تبادل المزيد من المعلومات بينهم والاستفادة من المعلومات التي تساعد على توليد أفكار جديدة .

المناقشة الواردة أعلاه تشير إلى الفرضية الخامسة: إن إنتاج المعلومات عن فرص تنظيم المشاريع يرتبط بشكل إيجابي بمناخ الاستثمار في المركز المالي الدولي .

للمزيد من مواضيعي